بدأ إدموند دي روتشيلد – وهو إبن جيمس وحفيد مئير أمشيل نشاطه من أجل اليهود حينما كان يناهز من العمر خمسة وثلاثين عامًا. ولقد كان إدموند الشاب قلقًا جدًا من مصير يهود روسيا الذين عانوا من ظواهر اللاسامية والاضطهاد والمذابح المدبرة. وفي عام 1880 شكل البارون إدموند دي روتشيلد مع أخيه ألفونس، لجنة خاصة، لانقاد يهود روسيا. وفي عام 1882 بعد المذابح الدموية الأليمة التي حلت بيهود روسيا وأوكرانيا والتي أطلق عليها اسم "العواصف في النقب" قرر البارون أن يعمل من أجل توطين اليهود اللاجئين من روسيا ومن أماكن أخرى، في أرض اسرائيل.
كانت دوافع البارون إدموند خيرية إنسانية من جهة، ودينية من جهة أخرى لكنه كان أولاً وقبل كل شيء رائدًا من رواد الحركة الصهيونية الحقيقيين حيث كان من أوائل المؤمنين بالوطن اليهودي في أرض إسرائيل، وبكيان قومي لليهود، وبمكان لتنمية الشعب اليهودي. وفي خطاب ألقاه أمام المتوطنين الأوائل أعلن: " لم أحضر لمساعدتكم بسبب فقركم ومعاناتكم، لأنّه ثمة بالتأكيد حالات مماثلة من البؤس في العالم ولكنني فعلت ذلك لأنني أرى فيكم من سيحققون انبعاث إسرائيل، من أجل المُثل العليا القريبة من صميم قلوبنا كلنا ومن أجل الهدف المقدس المنشود ألا وهو عودة الشعب اليهودي إلى وطن الأجداد".
وكان قد طلب في وصيته أن يُدفن هو وزوجته في أرض إسرائيل. وفي عام 1954 وبعد مرور عشرين عامًا على وفاته ، نُقل رفاته ورفات عقيلته أديليد من المقبرة في باريس إلى إسرائيل. وأحضِر التابوتان إلى ميناء حيفا على متن فرقاطة تابعة للبحرية الإسرائيلية ومن ثم إلى حيث أقيمت لهما جنازة رسمية في رمات هنديڤ ودُفِنَا على رأس تلة في المنطقة المسماة بـ "خشم الكرمل" التي تطل على قرى عديدة وبلدات أسسها. ولقد حظي البارون إدموند من قبل المتوطنين باللقب "المحسن المعروف" وهذا هو لأمر رمزي حيث تواصل المؤسسة الخيرية "ياد هنديڤ" التابعة لعائلتنا في إسرائيل، حملَ اسمه وذكراه.
ولقد أودع البارون إدموند في حياته مهمة بيد ابنه جيمس دي روتشيلد ليواصل الأعمال الخيرية التي قام بها ولكن جيمس توطن في إنكلترا ووُضعت مهمة إقامة القرى والعناية بها وبنموها بيد الجمعية اليهودية للتوطن في أرض إسرائيل "بيكا". وبقي هو وعقيلته في التعهد تجاه الفكرة الصهيونية وعند انتهاء الحرب العالمية الأولى سَاعَدَا السيد حاييم وايزمان في اتصالاته في بريطانيا وبالحصول على اعتراف بريطاني من أجل وطن قومي لليهود.
يُطلق على الرسالة التي صدرت عن حكومة بريطانيا في هذا الصدد الاسم "وعد بلفور" حيث تم إرسالها في الثاني من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 إلى اللورد روتشيلد الثاني وولتر، وجاء فيها: "تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، حيث تبذل قصارى جهودها لتسهيل تحقيق هذا الهدف بشرط ألا تمس الحقوقُ المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين ، أو الحقوقُ والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أيّ دولة أخرى".
في عام 1948 أعِلن عن قيام دولة إسرائيل استنادًا إلى قرار اتخذته الأمم المتحدة عام 1947. وقد تعرضت جهود إدموند وابنه جيمس للخطر بسبب نكبات وكوارث وحروب ومجاعات طوال ثلاثة أرباع القرن حيث كانت البلاد فقيرة للغاية، تنقصها الموارد الطبيعية ولم يكن فيها نفط أو أي مورد طبيعي آخر ولكن استطاع اليهود بطريقة ما، وبواسطة ما يملكونه من الخبرات التقنية، والإبداع، والطاقة والحزم - أن يقيموا مزارع مزدهرة، ومعامل ومدناً، ومجتمعاً عضوياً حياً يتمثل بالبراعة في مجال التقنيات العلمية.
وفي عام 1957 ، شعر جيمس أن مهمة "بيكا" قد اكتملت، حيث كتب إلى رئيس الوزراء آنذاك السيد دافيد بن غوريون، قائلاً: "أوَّلاً، إننا قمنا بعملنا بغض النظر عن الاعتبارات السياسية، وثانياً، إننا بادرنا إلى منح إسرائيل وشعبها كل ما استطعنا دون أن نسعى لأي شيء مقابل ذلك – وكل ذلك بدون أرباح أو امتنان ولا أيّ شيء آخر". وأعلن أنه ينقل كل أراضي "بيكا" المتبقية إلى المؤسسات القومية، وطلب من الدولة والشعب - مدعومين من يهود العالم - مواصلة المهمة، وقرَّر منح قسم من المخصصات المالية المتبقية لبناء عمارة جديدة للكنيست في أورشليم القدس، آملاً بأن يصبح المبنى الجديد رمزًا في عيون كل البشر لخلود دولة إسرائيل".
وفي رسالته إلى بن غوريون كتب جيمس أنه ينوي أيضًا فحص إمكانية التبرعات المتواضعة بغية دفع "العلوم والفنون والثقافة في إسرائيل" إلى الأمام، وهكذا تَرَكَ الباب مفتوحًا لمتابعة النشاطات الخيرية في البلاد. وبعد موت جيمس عام 1957، سلَّمت أرملته دوروثي الرسالة إلى بن غوريون وأكدت مجدداً لرئيس الوزراء أنها ستدرس ما إذا كان المجال مفتوحًا مستقبلاً للتبرعات في المجالات التي ذكرها زوجها في رسالته، وردَّ بن غوريون قائلاً: "لقد عكست رسالة زوجك أوج علاقاته وتضامنه مع إسرائيل ولم تعكس انتهاء عمله التاريخي... بل ونعم، لقد رُزق الأب الكبير بابن كبير مثله".
فمنذ وفاة زوجها وحتى موتها عام 1988، عكفت دوروثي دي روتشيلد دون كلل وتعب، على احترام أماني زوجها وأبيه. وتحت رئاستها تمَّ إنشاء مؤسسة ياد هنديڤ التي أخذت على عاتقها إقامة مشاريع متنوعة منها إقامة التلفزيون التربوي، والجامعة المفتوحة، ومركز التقنيات التربوية، ومركز أورشليم القدس للموسيقى في مشكانوت شأنانيم، ومركز التربية العلمية – "حِمْدَع"- في تل أبيب.
وساعدت دوروثي مجموعة من المستشارين المحترمين من بينهم اللورد فكتور روتشيلد، والسيد أمشيل روتشيلد، والسير إشعياء برلين واللورد جيكوب روتشيلد. وانضم إليهم لاحقاً أفراد عائلة آخرون وهم البروفيسورة إيما روتشيلد ، والسيدة بياتريس دي روتشيلد-روزنبرغ ، وزملاء أمثال جيمس ولفنسون - المسمى على اسم جيمس دي روتشيلد والذي خدم مع والد ولفنسون في الكتيبة العبرية في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى. ولا شك أن أحد المعالم البارزة للفترة الحالية كان بناء المحكمة العليا الذي اكتمل عام 1992. إذ قبل ذلك في عام 1984 كتبت دوروثي دي روتشيلد إلى رئيس الوزراء آنذاك السيد شمعون بيرس رسالة عرضت فيها أن تموِّل إقامة مبنى جديد للمحكمة العليا، معتبرة ذلك "استمرارًا للعمل الذي قام به زوجي ووالده قبله". وكان هدفُها المنشود مثلما فعل قبلها زوجها وأبوه – بمثابة استجابة للاحتياجات الحيوية للشعب اليهودي في إسرائيل منذ أيام هجرة اليهود الأولى إلى البلاد وحتى أيامنا هذه. ولا تزال هذه القيمُ الروحَ الحيَّة في الصندوق، وإننا نأمل أنها ستلهم أيضًا الأجيالَ القادمة.
هذه هي نسخة مترجمة معدة لخطاب اللورد جيكوب روتشيلد، مدير ياد هنديڤ، الذي ألقاه أمام ممثلين من الجيل الناشئ لعائلة روتشيلد وأمام أعضاء المجلس الاستشاري للصندوق.
عزبة وادسدون، إنكلترا، تموز، 2009
تولى اللورد روتشيلد منصب مدير ياد هنديڤ ما بين العامين 1989 و2018؛ وحاليًا هو يشغل منصب رئيس الصندوق. بينما تشغل ابنته حانا روتشيلد منصب المديرة منذ عام 2018.